فصل: قال البغوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البغوي:

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أراد به في مقدار ستة أيام لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، ولم يكن يومئذ يوم ولا شمس ولا سماء، قيل: ستة أيام كأيام الآخرة وكل يوم كألف سنة. وقيل: كأيام الدنيا، قال سعيد بن جبير: كان الله عز وجل قادرا على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة، فخلقهن في ستة أيام تعليما لخلقه التثبت والتأني في الأمور وقد جاء في الحديث: «التأني من الله والعجلة من الشيطان».
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال الكلبي ومقاتل: استقر. وقال أبو عبيدة: صعد. وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء، وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة لله تعالى، بلا كيف، يجب على الرجل الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل. وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه- 5]، كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليًّا، وعلاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج.
وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة: أمِرّوها كما جاءت بلا كيف.
والعرش في اللغة: هو السرير. وقيل: هو ما علا فأظل، ومنه عرش الكروم. وقيل: العرش الملك.
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب: {يُغشّي} بالتشديد هاهنا وفي سورة الرعد، والباقون بالتخفيف، أي: يأتي الليل على النهار فيغطيه، وفيه حذف أي: ويغشي النهار الليل، ولم يذكره لدلالة الكلام عليه وذكر في آية أخرى فقال: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} [الزمر- 5]، {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي: سريعا، وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهم الآخر ويخلفه، فكأنه يطلبه. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ} قرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر، والباقون بالنصب، وكذلك في سورة النحل عطفا على قوله: {خلق السموات والأرض}، أي: خلق هذه الأشياء مسخرات، أي: مذللات {بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ} له الخلق لأنه خلقهم وله الأمر، يأمر في خلقه بما يشاء. قال سفيان بن عيينة: فرق الله بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر.
{تَبَارَكَ اللَّهُ} أي: تعالى الله وتعظم. وقيل: ارتفع. والمبارك المرتفع. وقيل: تبارك تفاعل من البركة وهي النماء والزيادة، أي: البركة تكتسب وتنال بذكره.
وعن ابن عباس قال: جاء بكل بركة. وقال الحسن: تجيء البركة من قِبَله وقيل: تبارك: تقدس. والقدس: الطهارة. وقيل: تبارك الله أي: باسمه يتبرك في كل شيء. وقال المحققون: معنى هذه [الصفة] ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال. وأصل البركة الثبوت. ويقال: تبارك اللهُ ولا يقال: متبارك ولا مبارك، لأنه لم يرد به التوقيف. {رَبِّ الْعَالَمِينَ}. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} الآية، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة وعليه بدلائله، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب، ولا يقال الرب معرفًا إلا لله، وإنما يقال في البشر بإضافة، وروى بكار بن الشقير {إن ربكم اللهَ} بنصب الهاء، وقوله: {في ستة أيام} حكى الطبري عن مجاهد أن اليوم كألف سنة، وهذا كله والساعة اليسيرة سواء في قدرة الله تعالى، وأما وجه الحكمة في ذلك فمما انفرد الله عز وجل بعلمه كسائر أحوال الشرائع، وما ذهب إليه من أراد أن يوجه هذا كالمهدوي وغيره تخرص، وجاء في التفسير وفي الأحاديث أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد وكملت المخلوقات يوم الجمعة، ثم بقي دون خلق يوم السبت، ومن ذلك اختارته اليهود لراحتها، وعلى هذا توالت تفاسير الطبري وغيره، ولليهود لعنهم الله تعالى في هذا كلام سوء تعالى الله عما يصفون.
ووقع حديث في كتاب مسلم بن الحجاج في كتاب الدلائل لثابت السرقسطي، أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت وذكره مكي في الهداية، وقوله تعالى: {استوى على العرش} معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين بالملك والسلطان، وخص العرش بالذكر تشريفًا له إذ هو أعظم المخلوقات، وقال سفيان الثوري: فعل فعلًا في العرش سماه استواء.
قال القاضي أبو محمد: و{العرش} مخلوق معين جسم ما، هذا الذي قررته الشريعة، وبلغني عن أبي الفضيل بن النحوي أنه قال: العرش مصدر عرش يعرش عرشًا، والمراد بقوله: {استوى على العرش} هذا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خروج كثير عن ما فهم من العرش في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {يُغشي} من أغشى، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي {يعشّي} بالتشديد من غشّى، وهما طريقان في تعدية غشي إلى مفعول ثان، وقرأ حميد {يغَشَى} بفتح الياء والشين ونصب {الليلَ} ورفع {النهارُ}، كذا قال أبو الفتح وقال أبو عمرو الداني برفع {الليلُ}.
قال القاضي أبو محمد: وأبو الفتح أثبت و{حثيثًا} معناه سريعًا، و{يطلبه حثيثًا} حال من الليل بحسب اللفظ على قراءة الجماعة، ومن النهار بحسب المعنى، وأما على قراءة حميد فمن النهار في الوجهين، ويحتمل أن يكون حالًا منهما، ومثله قوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} [مريم: 27] فيصح أن يكون {تحمله} حالًا منها، وأن يكون حالًا منه وأن يكون حالًا منهما و{مسخرات} في موضع الحال، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة و{الشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ} بالرفع في جميعها، ونصب الباقون هذه الحروف كلها، وقرأ أبان بن تغلب و{الشمسَ والقمرَ} بالنصب، و{النجومُ مسخراتٌ} بالرفع.
و{ألا} استفتاح كلام فاستفتح بها في هذا الموضع هذا الخبر الصادق المرشد.
قال القاضي أبو محمد: وأخذ المفسرون {الخلق} بمعنى المخلوقات. أي هي له كلها وملكه واختراعه، وأخذوا {الأمر} مصدرًا من أمر يأمر، وعلى هذا قال النقاش وغيره: إن الآية ترد على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق فيها بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تؤخذ لفظة {الخلق} على المصدر من خلق يخلق خلقًا أي له هذه الصفة إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم، ويؤخذ {الأمر} على أنه واحد من الأمور إلا أنه يدل على الجنس فيكون بمنزلة قوله: {وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 123] وبمنزلة قوله: {وإلى الله ترجع الأمور} [البقرة: 210] فإذا أخذت اللفظتان هكذا خرجتا عن مسألة الكلام.
قال القاضي أبو محمد: ولما تقدم في الآية خلق وبأمره تأكد في آخره أن {له الخلق والأمر} المصدرين حسب تقدمهما، وكيف ما تأولت الآية فالجميع لله، وأسند الطبري إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من زعم أن الله تعالى جعل لأحد من العباد شيئًا من الأمر فقد كفر بما أنزل الله لقوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر}»، قال النقاش: ذكر الله الإنسان في القرآن في ثمانية عشر موضعًا في جميعها أنه مخلوق، وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعًا ليس في واحد منها إشارة إلى أنه مخلوق، وقال الشعبي {الخلق} عبارة عن الدنيا و{الأمر} عبارة عن الآخرة، و{تبارك} معناه عظم وتعالى وكثرت بركاته، ولا يوصف بها إلا الله تعالى، و{تبارك} لا يتصرف في كلام العرب، لا يقال منه يتبارك، وهذا منصوص عليه لأهل اللسان.
قال القاضي أبو محمد: وعلة ذلك أن {تبارك} لما لم يوصف بها غير الله تعالى لم تقتض مستقبلًا إذ الله قد تبارك في الأزل، وقد غلط بها أبو علي القالي فقيل له كيف المستقبل من تبارك فقال يتبارك فوقف على أن العرب، لم تقله، والرب السيد المصلح، و{العالمين} جمع عالم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام}
اختلفوا أي يوم بدأ بالخلق على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يوم السبت.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الاربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» وهذا اختيار محمد بن إسحاق.
قال ابن الأنباري: وهذا إجماع أهل العلم.
والثاني: يوم الأحد، قاله عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد، واختاره ابن جرير الطبري، وبه يقول أهل التوراة.
والثالث: يوم الاثنين، قاله ابن إسحاق، وبهذا يقول أهل الإنجيل.
ومعنى قوله: {في ستة أيام} أي: في مقدار ذلك، لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم تكن الشمس حينئذ.
قال ابن عباس: مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة، وبه قال كعب، ومجاهد، والضحاك، ولا نعلم خلافًا في ذلك.
ولو قال قائل: إنها كأيام الدنيا، كان قوله بعيدًا من وجهين.
أحدهما: خلاف الآثار.
والثاني: أن الذي يتوهمه المتوهِّم من الإِبطاء في ستة آلاف سنة، يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82].
فإن قيل: فهلاَّ خلقها في لحظة، فانه قادر؟ فعنه خمسة أجوبة.
أحدها: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمرًا تستعظمه الملائكة ومن يشاهده، ذكره ابن الانباري.
والثاني: أن التثبُّت في تمهيد ما خُلق لآدم وذريته قبل وجوده، أبلغُ في تعظيمه عند الملائكة.
والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبيت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما يظهر قدرته في قوله: {كن فيكون}.
والرابع: انه علّم عباده التثبُّت، فإذا تثبت من لا يزلُّ، كان ذو الزَّلل أول بالتثبُّت.
والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، أبعد من أن يُظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق.
قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير؛ وكل سرير لملك يسمى عرشًا، وقلما يُجمع العرش إلا في اضطرار، واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام.
قال أُمية بن أبي الصلت:
مجِّدوا الله فَهْو لِلمَجْدِ أهْلُ ** ربُّنا في السَّمَاءِ أمْسَى كَبِيْرا

بالبناء الأعلى الذي سبق النَّا ** س وسوَّى فوق السمَّاءِ سَرِيرَا